الصفحة الرئيسية  أخبار وطنية

أخبار وطنية «النهضة»: السياسة بمنطق «رصّ الصفوف» في الصلاة... بقلم شكري المبخوت

نشر في  25 جوان 2019  (17:32)

بقلم شكري المبخوت

لم يكن نهج المراجعة والتقييم لدى النهضة في تونس أمرا اختياريّا. فهو يعود في جانب منه إلى ضغط الواقع وتعقيداته التي لم يكن الإسلاميّون مهيئين إلاّ للتفاعل معها متخبّطين بمنطق التجربة والخطأ ويعود في الجانب الأهمّ إلى ضعف فكريّ فادح في فهمهم لما يسمّونه بالمرجعيّة الإسلاميّة واستخداماتهم المضطربة للدين في تكتيكاتهم السياسيّة بحسب مراحل وجودهم السياسيّ.

فقد انطلقوا من حديث غائم عن الهويّة الإسلاميّة وأنّ "الإسلام روح هذه الأمّة" وهو "نظرة شموليّة (...) على أنّه عقيدة وحياة وسياسة واخلاق ودين ودولة". فالمرجعيّة الإسلاميّة المزعومة لم تخرج عن جملة من الشعارات المستمدّة من مصادرهم الأساسيّة في كتابات الإخوان والمودودي مع توابل من الأفكار السلفيّة الوهّابيّة. وليس أفضل من شهادة راشد الغنّوشي الذي قال في أحد حواراته عن السيّد قطب: "كنت أقرأ وأحفظ عن ظهر قلب "الظلال" [يقصد "في ظلال القرآن"] لأنه عندما أقرأه كان يملؤني حماسا وكنت أشعر أنّه يعطيني نظارات أنظر بها إلى هذا العالم وأحلّل واقعي العالميّ".

ولئن كان مثل هذا الكلام يصدق، أكثر ما يصدق، على المرحلة الأولى من تشكّل الجماعة الإسلاميّة في السبعينات فلا شيء يدلّ على أنّ الأساسيّ فيه قد اختفى نهائيّا من وجدان الإسلاميّين حتّى بعد ان أصبحوا يمارسون السياسة بالعمائم واللحيّ وعرفوا محنة المحن بالنسبة إلى المشبعين بالإيديولوجيّات الراديكاليّة في سياق مضطرب وهي ممارسة السلطة.

ولكن يهمّنا في هذا المقال أن نحدّد النواة الدغمائيّة التي ظلّت قارّة في تفكير الإسلاميّين رغم الحديث عن المراجعات والتقييمات المختلفة. ففي هذه النواة نجد التناقضات التي تجعل مواقف النهضة ومراجعاتها لا تفضي بها إلاّ مزيد التشوّه الفكري والسياسيّ.

يقوم تصوّر النهضة الصريح والضمنيّ على اعتبار النصّ القرآني هو المرجعيّة العليا. بيد انّ هذا الأمر البديهيّ لكلّ من ينطلق من القرآن يفقد بداهته حين نصله بالآليّة التي تربط النصّ الثابت بالواقع المتحوّل المتطوّر ولها اسم هو الاجتهاد. فللنصّ عند الإسلاميّين حدود لا يمكن تجاوزها. ومربط الفرس في هذه العلاقة بين الوحي ومن جهة ومقتضيات التاريخ والعقل من جهة اخرى.

لكنّ الإسلاميّين يرون في كل فهم عقلانيّ تاريخيّ "تأويلا متعسّفا أو تعطيلا جائرا" للكتاب والسنّة. إذ العقل لا ينشئ الحكم الشرعيّ بل يكشف عنه وهو مضمر في النصوص أو موجود على نحو قطعيّ الدلالة فلا مشرّع إلاّ الله لأن الشريعة ثابتة في حين أن المتغيّر هو الفقه أي الأحكام التي تفهم بالاجتهاد في النصّ. وهو تمييز عندهم يقوم مقام المسلّمة دون سند مفهوميّ متين.

وبذلك لم يعد ثمّة من مجال للاجتهاد المزعوم إلا ّبانتقاء الحكم الفقهي الأنسب من مجموع الاجتهادات الفقهيّة القديمة والحديثة. ورغم جرعة النسبيّة التي يدخلها هذا الموقف من الفقه القديم على أنه متساو في الاجتهادات فإنّ هذه المواقف غير ملزمة للمسلم المعاصر. وهو ما يعيد فتح باب الاجتهاد للتفاعل مع الواقع لاستنباط تصوّرات جديدة.

غير انّ الدائرة تعود لتنغلق من جديد. فلا بحث في النصّ ولو باسم العقل والتاريخ عن مقاصد مثلا (كالعدل والتوحيد والحريّة والإنسانيّة) تتجاوز تفاصيل الأحكام فيه لتبحث في روحه ومعانيه الكبرى. وهو ما يعني أنّ الشريعة، على ما في المصطلح من غموض وتعدّد في المعنى، غير قابلة للتطوّر ولا يمكن تعطيل النصوص القطعيّة لتحقيق المقاصد. ومصداق ذلك الانشقاق الأوّل في الجماعة الإسلاميّة مع ما عرف باليسار الإسلاميّ أو الإسلاميّين التقدّميّين.

فما لم يدركه الإسلاميّون وإن أدركه بعضهم فقد ترك اللبس قائما على نحو متعمّد، هو التمييز بين الإسلام دينا له نصّ مؤسّس لا ملزم فيه إلاّ العقائد والشعائر ومنظومة الأخلاق والفكر الإسلاميّ على اعتباره اجتهادات تاريخيّة بشريّة تتّصل بالحياة وطرق تصريف شؤون الناس والمجتمع والدولة. بيد أنّ الأخذ بهذا التمييز يُفقد الإسلاميّين مسلّمتهم الأساسيّة القائلة بأنّ الإسلام إيديولوجيّة شاملة تقوم على مفهوم فضفاض هو المعلوم من الدين بالضرورة وكل تطوّر ممكن عليه أن يتقيّد بهذه المسلّمة. فمثل هذا التصوّر الأقرب إلى الواقع يدكّ لدى الإسلاميّين تصوّرهم "لعودة الإسلام" و"لاستعادة الدولة الإسلاميّة" وتطبيق الشريعة ولو على التدريج بحسب المراحل. وهو أمر عزيز على نفوس من تربّوا على الفكر الإخوانيّ حتى صرخوا بعد الثورة في لحظة انتشاء بأنّهم يدشّنون الخلافة السادسة.

لكنّ في الأمر مسألة دقيقة تحتاج إلى بيان. إنّ رفض الإسلاميّين للفكر المقاصدي وإعمال العقل في الوحي لا يعود إلى ورع وإيمان وتسليم من المؤمن بما جاء به الوحي. إذ يفضي تعدّد الأفكار والاجتهادات إلى تباينات حقيقيّة وانشقاقات فكريّة و"جماعات" مختلفة في فهمها للوحي في علاقته بالواقع والحال انّ المسألة عند الإسلام السياسيّ هي بناء جماعة إسلاميّة لا يمكن جمعها إلاّ برابط واحد هو العقيدة ووحدة أسلوب النظر إلى النصّ القرآني والمتن الدينيّ باسم الحقيقة الربّانيّة والمنهج الربّاني. وعدا هذا ستنقلب النهضة حركة لائكيّة تقدّم اجتهادا من الاجتهادات في السياسة والمجتمع وتفقد صفتها الدينيّة أو على الأقلّ لن تستطيع دون هذا الرابط العقديّ أن تحافظ على وحدتها. فهي حركة تمارس السياسة بمنطق رصّ الصفوف في الصلاة.

المصدر: موقع صواب